تفكّر في الزيف الذي يملأ هذا العالم.. يستاء قلبك.. تحاول تخفيف ألمه بأن تغالط نفسك وتقنعها بأنّك تكذب فالعالم غير مليء بالزيف.. وتتذكر الأشخاص الطيبين الذي قابلتهم في حياتك.. تفكّر بشكل أكبر.. تعيد النظر في الموضوع.. تتيقّن بأن العالم فعلاً مليء بالزيف لكنّك متصالحٌ جداً مع ذلك الزيف، فما الزيف والمشقة والصعوبات والغدر والخيانة إلا محفّزات تجعلك تتحرك وتتغير وتنتج في هذه الحياة.. تأخذ نفساً عميقاً متصالحاً مع كل ذلك الزيف مدركاً تماماً أنّك حتى أنت أقرب شخص إلى نفسك وأكثر شخص طيبة على هذا العالم تمتلئ بالكثير من الزيف..
تتساءل عن السبب الذي يجعل مشاعرك تتغير بهذه السرعة.. تشك أنّك تعاني من ثنائي القطب.. تبدد الفكرة سريعاً..
تنظر إلى أصحاب السيارات الفارهة والملابس البهية.. تسأل نفسك: هل أتمنى أن أُصبح مثلهم.. (كل ذلك قادم) تطمئن نفسك.. تتأكد أنّك في الوقت الراهن لا تشعر بأي حاجة شديدة إلى عيش حياتهم.. فأنت متصالحٌ جداً مع هذا القميص الذي تلبسه منذ عرفت نفسك، ومع الباصات المحتضرة التي تركبها كل يوم، متصالح مع اتساخك بالتراب ومع جيبك شبه الخاوي..
يمر بجانبك شاب أصغر منك يحمل بين يديه هاتف آيفون آخر اصدار، يدق قلبك حينها بشدّة، تنسى تماماً تصالحك مع جيبك شبه الخاوي ، فلذلك التصالح حدود، والآيفون يقع بعيداً، خارج تلك الحدود، تشعر بحاجة شديدة للحصول عليه، تشعر بأنّه جزء من أعضائك فقدته في الماضي والآن تُريد استرداده، تذبل ملامح وجهك بعد أن اكتساها الحزن، ينكسر قلبك، تصعد الباص حزيناً بائساً، مغلوباً على أمرك، يحكم العجز قبضته على قلبك بإتقان، تذبل، تنكمش، تتفتت، أنت الآن بائس، أنت لست نفس الشخص الذي كان يعبر الشارع قبل قليل، أنتما شخصان لا صلة بينكما، ولا يجمع بينكما أي وجه من أوجه التشابه.
تفكّر أن تتصل بصديقك الذي يملك أخوه محل بيع ملابس نساء لتطلب منه أن يجد لك عملاً، تفكّر أن تطلب من أمك أن تعطيك ذهبها لتفتح مشروعك الخاص، تفكّر أن تشتري خضروات وتبيعها في حارتكم، مشروع كهذا لن يحتاج رأس مال، وإذا استمررت فيه سينمو مع الأيام، وعند مرحلة ما ستكسب منه، كل فكرة من الأفكار هذه طرأت في بالك وهي تحمل فوق ظهرها أسبابها التي تجعلها غير ممكنة، ما يجعلك تيأس ولا تعيد التفكير فيها من جديد.
تفكّر لوهلة في الغربة، حبّك لقوقعتك يجعلك تكره الفكرة.. تطردها بسرعة
يصدح من الباص فجأة صوت أغنية أيوب طارش (بكّر غبش في الطل والرشاشي) كم تحب هذه الأغنية! تتمنى لو تطلب من السائق أن يرفع الصوت، تفكّر في أنّ ذلك قد لا يعجب الركّاب، تركّز حينها على الركاب وتدرك بأنه لا أحدٌ غيرك والسائق في الباص، لقد أخذتك أفكارك بعيداً لدرجة أنّك لم تركّز أو تهتم بذلك، بالإمكان إذاً طلب إعلاء الصوت من قبل السائق، لكنّ ذلك يتطلب جرأة لا تملكها، فأنت لست إلا كومة من الخجل.
تندمج مع كلمات الأغنية، تحرّك شفاهك وأصابعك منطرباً، تنظر الى الخارج مستمتعاً بالجو، تتأمل كلّ شيء بعد أن غادرتك أفكارك، أنت الآن بلا أفكار بلا هموم بلا مشاريع بلا خطط، أنت الآن ككل شخص في هذه البلاد، سعيد ومتصالح مع كل الزيف.